سورة الفرقان - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق} قيل هو تسلية له صلى الله عليه وسلم عن قولهم {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] بأن لك في سائر الرسل عليهم السلام أسوة حسنة فإنهم كانوا كذلك، وقال الزجاج: احتجاج عليهم في قولهم ذلك كأنه قيل كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم بدعًا من الرسل عليهم السلام. ورده الطيبي بأنه لا يساعد عليه النظم الجليل لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله تعالى: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال} [الإسراء: 48] وتعقبه في الكشف بقوله: ولقائل أن يقول هذا جواب آخر كما أجيب هنالك من أوجه على ما نقل عن الإمام وجعل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ} جوابًا ثالثًا وعقبه بقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة} [الفرقان: 11] لمكان المناسبة وتم الوعيد ثم أجابهم سبحانه جوابًا آخر يتضمن التسلية أيضًا وهذا يساعد عليه النظم الجليل، والجملة التي بعد إلا قيل صفة ثانية لموصوف مقدر قبل {مِنَ المرسلين} والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين إلا آكلين وماشين.
وتعقب بأن فيه الفصل بين الموصوف والصفة بإلا وقد رده أكثر النحاة كما في المغني، ومن هنا جعلها بعضهم صفة لموصوف مقدر بعد إلا وذلك بدل مما حذف قبل وأقيمت صفته مقامه، والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين إلا رجالًا أو رسلًا أنهم الخ، وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه وهو جائز عندهم. وقدر الفراء بعد إلا من وهي تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون نكرة موصوفة، وجعل بعضهم الجملة في محل نصب بقول محذوف وجملة القول صفة أي إلا رجالًا أو رسلًا قيل أنهم إلخ وهو كما ترى، وقال ابن الأنباري: الجملة حالية والاستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وإنهم. قال أبو حيان: وهو المختار، وقدر الواو بناءً على أن الاكتفاء في مثل هذه الجملة الحالية بالضمير غير فصيح، ورا يختار عدم التقدير ويمنع دعوى عدم الفصاحة أو يحمل ذلك على غير المقترن بإلا لأنه في الحقيقة بدل، ووجه كسر إن وقوعها في الابتداء ووقوع اللام بعدها أيضًا. وقرئ {أَنَّهُمْ} بالفتح على زيادة اللام بعدها وتقدير جار قبلها أي لأنهم يأكلون الخ. والمراد ما جعلناهم رسلًا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود. وعبد الرحمن بن عبد الله {يَمْشُونَ} بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنيًا للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي: يمشي بيننا حانوت خمر...
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في البحر {يَمْشُونَ} بضم الياء والشين مع التشديد مبنيًا للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه. وأنشدوا قوله:
ومشى بأغصان المباءة وابتغى *** قلائص منها صعبة وذلول
وقوله:
فقد تركت خزينة كل وغد *** يمشي بين خاتام وطاق
وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} قيل تسلية له صلى الله عليه وسلم أيضًا لكن عن قولهم: {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة} [الفرقان: 8] أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي عالمًا بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، وقيل تصبير له عليه الصلاة والسلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الاحتجاج عليهم بسائر الرسل، والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم، والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن يعدوا بعضًا منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين. وإنما لم يصرح بذلك تعويلًا على شهادة الحال، وحاصله جرت سنتنا وجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب للناس كافة على ما قيل وهو الظاهر، والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضى وغيرهم ممن يصلح أن يفتن. والكلام عليه مفيد لتصبره صلى الله عليه وسلم على ما قالوه وزيادة، وقيل: المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته دخولًا أوليًا فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب ابن عطية فقال: ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغنى فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى.
واختار ذلك أبو حيان. ولا يضر فيه خصوص سبب النزول. فقد روي عن الكلبي أنها نزلت في أبي جهل. والوليد بن المغيرة. والعاصي بن وائل. ومن في طبقتهم قالوا: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار. وصهيب. وبلال. وفلان. وفلان ترفعوا علينا إدلالًا بالسابقة. والاستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا. وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه. وإما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم ببعض. ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير اعتبار التعليل أيضًا بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت. وجعل ابن عطية الخطاب فيما سبق عامًا وفي {أَتَصْبِرُونَ} خاصًا بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلًا فقال: كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا. وجعل قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} وعدًا للصابرين ووعيدًا للعاصين. وجعله بعضهم وعدًا للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام بالالتفات إلى اسم الرب مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. وجوز أن يكون وعيدًا لأولئك المعاندين له عليه الصلاة والسلام جىء به إتمامًا للتسلية أو التصبر وليس بذاك. واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل الله تعالى وإرادته والفتنة عنى الابتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها. وفيه من الخفاء ما فيه. وقوله تعالى:


{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)}
{وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} إلخ شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر حكاية إبطال أباطيلهم السابقة وذكر ما يتعلق بذلك، والجملة معطوفة على قوله تعالى: {وَقَالُواْمَّالِ هذا الرسول} [الفرقان: 7] إلى آخره، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكى عنهم في الشناعة بحيث لا يصدر عمن يرجو لقاء الله عز وجل، والرجاء في المشهور الأمل وقد فسر أحدهما بالآخر أكثر اللغويين، وفي فروق ابن هلال الأمل رجاء يستمر ولذا قيل للنظر في الشيء إذا استمر وطال تأمل، وقيل: الأمل يكون في الممكن والمستحيل والرجاء يخص الممكن. وفي المصباح الأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله والطمع يكون فيما قرب حصوله والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي يخاف أن لا يحصل مأموله ولذا استعمل عنى الطمع انتهى، وفسره أبو عبيدة. وقوم بالخوف، وقال الفراء: هذه الكلمة تهامية وهي أيضًا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون: فلان لا يرجو ربه سبحانه يريدون لا يخاف ربه سبحانه، ومن ذلك {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أي لا تخافون لله تعالى عظمة وإذا قالوا: فلان يرجو ربه فهذا على معنى الرجاء لا على معنى الخوف، وقال الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وحالفها في بيت نوب عواسل
وقال آخر:
لا يرتجي حين يلاقي الذائدا *** أسبعة لاقت له أو واحدًا
انتهى، وذكر أن استعمال الرجاء في معنى الخوف مجاز لأن الراجي لأمر يخاف فواته، وأصل اللقاء مقابله الشيء ومصادفته وهو مراد من قال: الوصول إلى الشيء لا المماسة ويطلق على الرؤية لأنها وصول إلى المرئي، ولقاؤه تعالى هنا كناية عن لقاء جزائه يوم القيامة أو المراد ذلك بتقدير مضاف؛ والمعنى على التفسير المشهور للرجاء وقال الذين لا يأملون لقاء جزائنا بالخير والثواب على الطاعة لتكذيبهم بالبعث، وعلى التفسير الآخر وقال الذين لا يخافون لقاء جزائنا بالشر والعقاب على المعصية لتكذيبهم بالبعث كذا قيل. وقيل المراد به رؤيته تعالى في الآخرة والرجاء عليه عنى الأمل دون الخوف إذ لا معنى لكون الرؤية مخوفة وهو خلاف الظاهر وإن لم يأبه ما بعد إذ يكون المعنى عليه إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة التي هي مظنة الرؤية لكثير من الناس اقترحوا رؤيتنا في الدنيا التي ليست مظنة لذلك، وقد يقال: نفي رجاء لقائه تعالى كناية عن إنكار البعث والحشر ولعله أولى مما تقدم أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة} أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم {أَوْ نرى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك كما روي عن ابن جريج.
وغيره وفي طلب إنزال ملائكة للتصديق دون إنزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغًا لا ينفع معه تصديق ملك واحد وإذا اعتبرت أل في الملائكة للاستغراق الحقيقي كانت الإشارة إلى قوة تكذيبهم أقوى، وتزداد القوة إذا اعتبر في {عَلَيْنَا} معنى كل واحد منا ولم يعتبر توزيع، ويشير أيضًا إلى قوة ذلك تعبيرهم بالمضارع الدال على الاستمرار التجددي في أو {نرى رَبَّنَا} كأنهم لم يكتفوا برؤيته تعالى وإخباره سبحانه بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يروه سبحانه ويخبرهم مرارًا بذلك، ولا يأبى قصد الاستمرار من المضارع كون الأصل في {لَوْلاَ} التي للتحضيض أو العرض أن تدخل على المضارع وما لم يكن مضارعًا يؤول به، ولعل عدولهم إلى الماضي في جانب إنزال الملائكة المعطوف عليه وإن كان في تأويل المضارع على نحو ما قدمنا في تفسير قوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} فتذكر فما في العهد من قدم.
وقيل: المعنى لولا أنزل علينا الملائكة فيبلغون أمر الله تعالى ونهيه بدل محمد صلى الله عليه وسلم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك من غير توسيط أحد. ورجح الأول بأن السياق لتكذيبه صلى الله عليه وسلم وحاشاه ثم حاشاه من الكذب والتعنت في طلب مصدق له عليه الصلاة والسلام لا لطلب من يفيدهم الأمر والنهي سواه صلى الله عليه وسلم، ولا نسلم أن {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة} يتكرر عليه مع {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7] السابق لظهور الفرق بين المطلوبين بين فيهما ولو فرض لزوم التكرار بينهما فهو لا يضر كما لا يخفى. وانتصر للأخير بأن المقام ليس إلا لذكر المكذبين وحكاية أباطيلهم الناشئة عن تكذيبهم. وقد عد فيما سبق بعضًا منها متضمنًا تعنتهم في طلب مصدق له صلى الله عليه وسلم فالأولى أن يكون ما هنا حكاية نوع آخر منها ليكون أبعد عن التكرار وأدل على العناد والاستكبار. ولعل قوله تعالى: {لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} أنسب بما ذكر. ومعنى {استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ} أوقعوا الاستكبار في شأنها وعدوها كبيرة الشأن، وفيه تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم كما في قوله:
يجرح في عراقيبها نصلي ***
والعتو تجاوز الحد في الظلم وهو المصدر الشائع لعتا، واللام واقعة في جواب القسم أي والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان تجاوزًا كبيرًا بالغًا أقصى غايته حيث كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينقادوا لبشر مثلهم يوحى إليه في أمرهم ونهيهم ولم يكترثوا عجزاته القاهرة وآياته الباهرة فطلبوا ما لا يكاد يرنوا إليه أحداق الأمم وراموا ما لا يحظى به إلا بعض أولي العزم من الرسل صلى الله عليه وسلم.
وقد فسر {استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ} بأضمروا الاستكبار وهو الكفر والعناد في قلوبهم وهو أظهر مما تقدم وما تقدم أبلغ وأوفق لما انتصر له. وكذا فسر العتو بالنبو عن الطاعة وما تقدم أبلغ وأوفق بذلك أيضًا. وفي تعقيب حكاية باطل أولئك الكفرة بالجملة القسمية إيذان بغاية قبح ما هم عليه وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم وهو من الفحوى في الحقيقة ومثل ذلك شائع في الكلام تقول لمن جنى جناية: فعلت كذا وكذا استعظامًا وتعجبًا منه؛ ويستعمل في سائر الألسنة وجعل الزمخشري من ذلك قول مهلهل:
وجارة جساس أبأنا بنابها *** كليبًا غلت ناب كليب بواؤها
والطيبي قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} [الكهف: 5]، وتعقب بأن ذلك ليس من هذا القبيل لأن الثلاثي المحول إلى فعل لفظًا أو تقديرًا موضوع للتعجب كما صرح به النحاة؛ وذكر الإمام مختار القول الأول في تفسير {لَوْلا أُنزِلَ} إلخ أن هذه الجملة جواب لقولهم {لَوْلا أُنزِلَ} إلخ من عدة أوجه، أحدها: أن القررن لما ظهر كونه معجزًا فقد ثبتت نبوته صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح هذه الآيات إلا محض استكبار. وثانيها: أن نزول الملائكة عليهم السلام لو حصل لكان أيضًا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزًا فيكون قبول ذلك ورد الآخر ترجيحًا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها: أنهم بتقدير رؤية الرب سبحانه وتصديقه لرسوله صلى الله عليه وسلم لا يستفيدون علمًا أزيد من تصديق المعجز إذ لا فرق بين أن يقول النبي: اللهم إن كنت صادقًا فأحي هذا الميت فيحييه عز وجل وبين أن يقول: إن كنت صادقًا فصدقني فيصدقه فتعيين أحد الطريقين محض العناد، ورابعها: أن العبد ليس له أن يعترض على مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي، وخامسها: أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداهما واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها: لعل المراد أني لو علمت أنهم ليسوا مستكبرين وعاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت أنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم، وسابعها: لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة عليهم السلام على عوام الخلق ثم أنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون انتهى وفيه ما لا يخلو عن بحث.
واستدلت الأشاعرة بقوله تعالى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} على أن رؤية الله تعالى ممكنة. واستدلت المعتزلة بقوله سبحانه: {لَقَدِ استكبروا وَعَتَوْا} على أنها ممتنعة ولا يخفى ضعف الاستدلالين.


{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)}
{يَوْمَ يَرَوْنَ الملئكة} استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدة الملائكة عليهم السلام بعد استعظام طلبهم إنزالهم عليهم وبيان كونه في غاية الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون دون أن يقال يوم تنزل الملائكة إيذانًا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما طلبوه بل على وجه آخر لم يمر ببالهم. {وَيَوْمَ} منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى: {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} فإنه في معنى لا يبشر يومئذٍ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى فكأنه قيل لا يبشرون يوم يرون الملائكة، وقدر بعضهم يمنعون البشرى أو يفقدونها والأول أبعد من احتمال توهم تهوين الخطب، وقدر بعضهم لا بشرى قبل يوم وجعله ظرفًا لذلك، وجوز أبو البقاء تعلقه بيعذبون مقدرًا لدلالة {لاَ بشرى} إلخ عليه وكونه معمولًا لا ذكر مقدرًا قال: أبو حيان وهو أقرب.
وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يكون منصوبًا بينزل مضمرًا لقولهم: {لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21] كأنه قيل ينزل الملائكة يوم يرونهم، ولا يقال: كيف يكون وقت الرؤية وقتًا للإنزال لأنا نقول: الظرف يحتمل ذلك لسعته واستحسنه الطيبي فقال هو قول لا مزيد عليه لأنه إذا انتصب بينزل يلتئم الكلامان لأن قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ} إلخ نشر لقوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ} [الفرقان: 21] الخ، وقوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا} [الفرقان: 23] نشر لقوله عز وجل: {أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] ولم يجوز الأكثرون تعلقه ببشرى المذكور لكونه مصدرًا وهو لا يعمل متأخرًا وكونه منفيًا بلا ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها. {وَيَوْمَئِذٍ} تأكيد للأول أو بدل منه أو خبر {وللمجرمين} تبيين متعلق حذوف كما في سقيا له أو خبر ثان أو هو ظرف لما يتعلق به اللام أو لبشرى إن قدرت منونة غير مبنية مع لا فإنها لا تعمل إذ لو عمل اسم لا طال وأشبه المضاف فينتصب.
وفي البحر احتمل بشرى أن يكون مبنيًا مع لا واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيًا لا احتمل أن يكون الخبر {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} وللمجرمين خبر بعد خبر أو نعت لبشرى أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون {يَوْمَئِذٍ} صفة لبشرى والخبر {لّلْمُجْرِمِينَ} ويجىء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس لا أو للمبتدأ الذي هو مجموع ولا ما بنى معها. وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} معمولًا لبشرى وأن يكون صفة والخبر {لّلْمُجْرِمِينَ}، وجاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} خبرًا {وللمجرمين} صفة، وجاز أن يكون {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} خبر أو {لّلْمُجْرِمِينَ} خبرًا بعد خبر والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيًا للا نفسها بالإجماع.
وقال الزمخشري: يومئذٍ تكرير ولا يجوز ذلك سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظي أم أريد به البدل لأن {يَوْمٍ} منصوب بما تقدم ذكره من أذكر أو من يفقدون وما بعد لا العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبلها انتهى. ولا يخفى عليك ما في الاحتمالات التي ذكرها. وأما ما اعترض به على الزمخشري فتعقب بأن الجملة المنفية معمولة لقول مضمر وقع حالًا من الملائكة التي هي معمول ليرون {ويرون} معمول ليوم فلا وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث أنه معمولًا لبعض ما في حيزه ومثله لا يعد محذورًا مع أن كون لا لها الصدر مطلقًا أو إذا بنى معها اسمها ليس سلم عند جميع النحاة لأنها لكثرة دورها خرجت عن الصدارة فتأمل، هذا ما وقفنا عليه للمتقدمين في إعراب الآية وما فيه من الجرح والتعديل.
وقال بعض العصريين: يجوز تعلق {لايّ يَوْمٍ} بكبيرًا وتقييد كبره بذلك اليوم ليس لنفي كبره في نفسه بل لظهور موجبه في ذلك اليوم ونظيره لزيد علم عظيم يوم يباحث الخصوم وتكون جملة {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} استئنافًا لبيان ذلك وهو كما ترى، وأيًا ما كان فالمراد بذلك اليوم على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يوم الموت، وقال أبو حيان: الظاهر أنه يوم القيامة لقوله تعالى بعد: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ} [الفرقان: 23] إلخ وفيه نظر.
ونفي البشرى كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] كناية عن البغض والمقت فيدل على ثبوت النذري لهم على أبلغ وجه، والمراد بالمجرمين أولئك الذين لا يرجون لقاءه تعالى، ووضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر والعناد وإيذانًا بعلة الحكم، ومن اعتبر المفهوم في مثله ادعى إفادة الآية عدم تحقق الحكم في غيرهم، وقد دل قوله تعالى في حق المؤمنين: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ} [فصلت: 30] إلخ على حصول البشرى لهم، وقيل: المراد بهم ما يعم العصاة والكفار الذين لا يرجون لقاءه تعالى، ويفيد الكلام سلب البشرى عن الكفار على أتم وجه لدلالته على أن المانع من حصول البشرى هو الإجرام ولا إجرام أعظم من إجرام الذين لا يرجون لقاءه عز وجل ويقولون ما يقولون فهم أولى به. ولا يتم استدلال المعتزلة بالآية عليه في نفي العفو والشفاعة للعصاة لأنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات فيجوز أن يبشر العصاة بما ذكر في وقت آخر.
وتعقب بأن الجملة قبل النفي لكونها اسمية تفيد الاستمرار فبعد دخول النفي إرادة نفي استمرار البشرى للمجرمين عنى أن البشرى تكون لهم لكن لا تستمر مما لا يظن أن أحدًا يذهب إليه فيتعين إرادة استمرار النفي كما في قوله تعالى في حق أضدادهم:{لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فحينئذٍ لا يتسنى قوله: إنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات، فالأولى أن يراد بالمجرمين من سمعت حديثهم {وَيَقُولُونَ} عطف على لا يبشرون أو يمنعون البشرى أو نحوه المقدر قبل {يَوْمٍ}.
وجوز أن يكون عطفًا على ما قبله باعتبار ما يفهم منه كأنه قيل: يشاهدون أهوال القيامة ويقولون، وأن يكون عطفًا على {يَرَوْنَ} وجملة {لاَ بشرى} حال بتقدير القول فلا يضر الفصل به، وضمير الجمع على ما استظهره أبو حيان لأنهم المحدث عنهم وحكاه الطبرسي عن مجاهد. وابن جريج للذين لا يرجون أي ويقول أولئك الكفرة {حِجْرًا مَّحْجُورًا} وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكأن المعنى نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا.
وقال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرًا محجورًا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر، وقال أبو عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة، وقال أبو علي الفارسي: مما كانت العرب تستعمله ثم ترك قولهم حجرًا محجورًا، وهذا كان عندهم لمعنيين، أحدهما: أن يقال عند الحرمان إذا سئل الإنسان فقال ذلك علم السائل أنه يريد أن يحرمه، ومنه قول المتلمس:
حنت إلي النخلة القصوى فقلت لها *** حجر حرام ألا تلك الدهاريس
والمعنى الآخر الاستعاذة كان الإنسان إذا سافر فرأى ما يخاف قال: حجرًا محجورًا أي حرام عليك التعرض لي انتهى. وذكر سيبويه {حِجْرًا} من المصادر المنصوبة غير المتصرفة وأنه واجب إضمار ناصبها، وقال: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا فيقول: حجرًا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله تعالى أن يمنع المكروه من أن يلحقه والأصل فيه فتح الحاء، وقرئ به كما قال أبو البقاء لكن لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول فلما تغير معناه تغير لفظه عما هو أصله وهو الفتح إلى الكسر وقد جاء فيه الضم أيضًا وهي قراءة أبي رجاء. والحسن. والضحاك ويقال فيه حجري بألف التأنيث أيضًا؛ ومثله في التغيير عن أصله قعدك الله تعالى بسكون العين وفتح القاف، وحكى كسرها عن المازني وأنكره الأزهري وقعيدك وهو منصوب على المصدرية، والمراد رقيبك وحفيظك الله تعالى ثم نقل إلى القسم فقيل قعدك أو قعيدك الله تعالى لا تفعل، وأصله بإقعاد الله تعالى أي إدامته سبحانه لك وكذا عمرك الله بفتح الراء وفتح العين وضمها وهو منصوب على المصدرية ثم اختص بالقسم، وأصله بتعميرك الله تعالى أي بإقرارك له بالبقاء، وما ذكر من أنه لازم النصب على المصدرية بفعل واجب الإضمار اعترض عليه في الدر المصون بما أنشده الزمخشري:
قالت وفيها حيدة وذعر *** عوذ بربي منكم وحجر
فإنه وقع فيه مرفوعًا، ووصفه حجورًا للتأكيد كشعر شاعر وموت مايت وليل أليل، وذكر أن مفعولًا هنا للنسب أي ذو حجر وهو كفاعل يأتي لذلك، وقيل: إنه على الإسناد المجازي وليس بذاك، والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم السلام وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعًا شديدًا، وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس فظيع، وقيل: ضمير يقولون للملائكة وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري. والضحاك. وقتادة. وعطية. ومجاهد على ما في الدر المنثور قالوا: إن الملائكة يقولون للكفار حجرًا محجورًا أي حرامًا محرمًا عليكم البشرى أي جعلها الله تعالى حرامًا عليكم.
وفي بعض الروايات أنهم يطلبون البشرى من الملائكة عليهم السلام فيقولون ذلك لهم، وقال بعضهم: يعنون حرامًا محرمًا عليكم الجنة وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: الغفران، وفي جعل {حِجْرًا} نصبًا على المفعولية لجعل مقدرًا كما أشير إليه بحث، والظاهر على ما ذكر أن إيراد هذه الكلمة للحرمان وهو المعنى الأول من المعنيين اللذين ذكرهما الفارسي {وَيَقُولُونَ} على هذا القول قيل معطوف على ما عطف عليه على القول بأن ضميره للكفرة، وقيل: معطوف على جملة يقولون المقدرة قيل {لاَ بشرى} الواقعة حالًا.
وقال الطيبي: هو حال من {الملائكة} بتقدير وهم يقولون نظير قولهم: قمت وأصك وجهه وعلى الأول هو عطف على {يَرَوْنَ}.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10